- اكرمنائب المدير
- الجنس :
عدد الرسائل : 2661
العمر : 41
تاريخ التسجيل : 23/05/2009
ردهة السرطان
الأربعاء يوليو 08, 2009 2:03 pm
كان يراها دائماً، في نهاية الردهة تحمل دفتراً وتمشي الهويناء . عندئذ يدفعه الخادم بمحاذاتها فيرمقها بحذر ثم يجتازها ويلعن في سره الخادم المسرع دائماً والقليل الكلام .
-لو وكل الي أمره لدفنته في حفرة عميقة .
وضحكت هي ، كانت تلتذ بكلماته الحانقة وهو يدون الملاحظات عن حياته في المستشفى ، حياته المرهقة واللامجدية .
جلست إزاءه تحدثه عن نفسها . إنها في الرابعة والعشرين ، تفكر في مغادرة الوطن وربما لن تعود ثانية ، سألها بالتياع :-
-وماذا ستفعلين هناك ؟
هزت كتفها بلا مبالاة :- سوف اعمل .
-ثم ماذا ؟
-لا ادري !
وانبعثت ضحكتها تجلجل في سكون الغرفة فشاركها الضحك مرغما وهو يكتم الآلام في ساقيه كي لا يعكر صفو الجلسة ، استطردت قائلة :-
-عندي إحساس باني أعيش في سجن ، سجن دائم بلا مفاتيح ولا حتى أبواب ، جدران فقط بلا نوافذ أتفهم ما اعنيه .
انه يفهم بالتأكيد ، يفهم سر هذا الألم الممض في ساقيه الذي منعه من مغادرة السرير وهاهي الأبواب تتحول إلى بوابات سجن طويل مؤبد لا مخرج منه .
كان يحاول إقناعها بالبقاء ، دون جدوى :-
-علي أن اذهب . لدي عمل في الردهة الأخرى .
-هل أراك مجدداً ؟
-بالتأكيد .
كانت على وشك المغادرة ثم التفتت بغتةً لتسأل :- ولكن ما هو مرضك بالضبط ؟
ارتسم شبح الابتسامة على شفتيه ، ماذا سيقول ، فضل أن يجامل :-
-التهاب في قصبة الساق .
-لهذا السبب أنت عاجز عن السير ! إنني ارثي لك .
-لا بأس .
ودعته وخرجت . ظل وحده يفكر ، دون بعض الملاحظات عن المستشفى وفكر في كتابة قصة عن حياته الرتيبة .. سوف يستمتع الآخرون بآلامه .. سرته الفكرة وشرع في كتابة بضعة سطور حتى فاجأه طرق على الباب . أجفل قائلاً :-
-تفضل .
-الدواء .
الممرضة ذاتها ، سمراء ، عابسة تفوح منها رائحة المعقمات ، في تلك اللحظة كان يشعر بمرضه اكثر مما ينبغي . خطر له أن يسألها :-
-هل الطبيبة (س) تعمل هنا باستمرار ؟
-لا ، إنها تزورنا مرة في الأسبوع .
-تبدو لطيفة ..
لم ترد ، اكتفت بوضع المحرار في فمه بينما سارعت إلى إعداد الحقنة التي أصبحت جزءاً من بؤسه اليومي.
عندما خرجت الممرضة كان لوحده ثانيةً . شعر بالصمت يثقل عليه ويضغط أنفاسه . أسبل جفنيه واستسلم للنوم .. إنها حقنة مخدرة . قال لنفسه ، ثم لم يشعر بشيء .
* * *
حاول أن يقنع الخادم بالعدول عن سرعته " أرجوك ابطيء قليلاً " . لكن الأخير لم يهتم . وراح يدفعه كالمعتاد وعجلات الكرسي المتحرك تدوي عالياً في الممر كسيارة قديمة .
كان بوسعه أن يشاهد شعرها مشدوداً إلى الخلف ثم جانب وجهها الأيسر ، لها فم دقيق وعينان مركزتان بحدة فيما يظهر أمامها ، ود لو يلفت نظرها ، شعر بحاجة ملحة للكلام لكنها لم تنتبه وسار الكرسي بعيداً ثم دلف ردهته .
انبعثت رائحة النظافة من كل شيء، السرير، الكرسي، الملابس . نظافة مريضة وبياض بلا نقاء، هنالك شيء ملوث في اكثر الأشياء بياضاً أولها ذاته .
اغمض عينيه منتظراً خطواتها، ثم سمعها تقترب وتمر بحجرته لتختفي في حجرة أخرى . اشتد وجيب قلبه لفترة ثم ازداد شدة ً عندما دخلت وابتسامة بشوشة تعلو شفتيها .
-صباح الخير .
-صباح الخير .
حاول ألا يبدو متحمساً . دفع كرسيه قليلاً إلى الخلف ليفسح لها مكاناً للجلوس.
-تبدو بصحة جيدة .
سر للمجاملة ، أومأ برأسه موافقاً وابتسم ، عادت تقول :-
-سألت أحد أقاربي عنك ، أكد لي بأنك معروف جداً .
-هذا إطراء لا استحقه .
-أنت متواضع اكثر مما يجب .
ماذا يقول لها ؟ لقد ترك الكتابة منذ أعوام ، عندما بدأ المرض ، وها هو ذا يتعلق بأذيال شهرته ليبدو مقبولاً أمامها . هذا الهيكل المنخور يحاول أن يبدو إنسانا . ضحك قائلاً :-
-هل قرأت شيئا مما كتبت .
-قصة واحدة فقط .
-أي قصة ؟
-ليلى والذئب .
شعر بالامتعاض ، لم تكن ليلى والذئب قصته ، إنها قصة شخص آخر ، لكنه لم يود إحراجها ، سألها بهدوء:-
-وما رأيك بها ؟
-إنها معقدة ، لم افهم شيئاً .
-انه رأيي أيضاً .
واستطرد في سره :- إنها معقدة وسخيفة .. لربما ظنت بأنني هو ، انه لم يكتب شيئاً سوى هذه الرواية التي نالت نجاحاً عارضاً ثم انتهت إلى سلة المهملات .
حاول أن يدافع عن سمعته :-
-اقرأي قصة العرس ، لربما تكون افضل .
-لم اسمع بها من قبل .
-سأعطيك نسخة .
-متى ؟
-متى ما شئت.
-الأسبوع القادم .
-لا بأس .
تنفس الصعداء ، في الأسبوع القادم ستأتي لزيارته حصراً وربما سيتحدثان لفترة أطول ، سيبوح لها بسره ، سوف تفهم كل شيء ، لن تستاء منه وستتعاطف معه .. كان يأمل أن تتعاطف معه .
نظرت إلى ساعتها قائلة :- تأخرت .. عن إذنك .
-تفضلي .
ودعها وخرجت . حل الظلام في حجرته ، اغمض عينيه ولبث ينتظر الطرق المرعب للممرضة .. قرر أن لا ينظر إليها ، سوف يحول وجهه للجهة الثانية ليخفف الصدمة . سيفكر بالطبيبة فقط .. تجلى له وجهها في العتمة وخيل إليه بأنها تحدثه عن الأبواب والمفاتيح والرحيل . ثم اخلد إلى النوم .
* * *
رفع رأسه إلى الساعة الجدارية . خيل له أن عقارب الساعة تدب في رأسه فقط وان لا وجود لها خارج ذهنه . كان السؤال يتردد على شفتيه :- لماذا لم تحضر بعد ؟
وتصلبت يداه على نسخة من قصته ، قرأ بعض الأسطر عشرات المرات حتى حفظها عن ظهر قلب ثم تفاقم إحساس بالسأم في نفسه ، مدد جسده على السرير ومرت في ذهنه مئات الصور لحياته المنصرمة واخيرا برزت صورتها ، تراقبه بعينين دافئتين وتطالبه بقراءة قصته .
-لست واثقاً إن كنت ستحبينها .
-اقرأ لي وسأخبرك .
-أرجو أن تكوني صريحة .
ابتسمت قائلة :- سأكون صريحة جداً .
وشرع يقرأ لها . كانت القصة تدور حول زواج طفلين بالإكراه والإجراءات التي تتخذ لإتمام العرس مهما كان الثمن . لاحظ ملامح وجهها تتغير ، وبانت مسحة حزينة على عينيها وشفتيها ثم تألقت عيناها بالدموع .
وضع القصة جانباً وسألها :- هل أعجبتك ؟
أومأت برأسها موافقة ثم مسحت دمعة بمنديلها . قالت :-
-إنها تذكرني بحادث اليم .
-أي حادث ؟
-لقد تزوجت إحدى قريباتي بطريقة مماثلة .
ركز أنظاره في وجهها ،بدت له بريئةً كزهرة بيضاء وسط حقل لم يطأه أحد . سألها :-
-وهل هي .. اعني قريبتك .. سعيدة ؟
صمتت لحظة ثم أجابت :- لقد توفيت .
راعته نبرة الألم في صوتها وشعر بالذنب لأنه سألها عن ذلك ، لم يشأ أن يجرحها ، أن يسحبها إلى العمق السحيق لجروحه هو .
-كان من المفترض أن اختار قصة أخرى .
كفكفت دموعها وقالت :- لا بأس .. إنني أتذكرها دائماً ..
ثم نهضت قائلة :- شكراً لك .
وراقبها تخرج من الغرفة ثم ترددت خطواتها عبر الممر الطويل حتى تلاشت تماماً .
وبعد لحظات فتح عينيه . تناهى إليه صوت المقعد يقترب على عجل، ثم فتح الباب بهدوء .
* * *
عندما مرت لزيارته بعد أسبوع وجدت غرفته خالية ، اضطربت لحظات أمام الفراغ الذي بدا جسيماً ، والتفتت ناحية الممرضة .
-هل غادر المستشفى ؟
رفعت الممرضة رأسها عن إحدى الملفات وأجابت ببرود :- لقد توفي بعد زيارتك الأخيرة .
ارتسمت إمارات الجزع على وجهها ، استفسرت بقلق :-
-ما سبب الوفاة ؟ انه يعاني من التهاب فحسب !
ارتسمت على وجه الممرضة بسمة ساخرة :- التهاب ! ... انه مصاب بسرطان خطير في العظم .
تمالكت الطبيبة نفسها ، تذكرت بأنها لم تطلع على الملف . وجرتها أقدامها إلى الممر الخارجي حيث توقفت على نداء الممرضة التي لحقت بها وهي تلوح بحزمة أوراق.
-لقد ترك لك هذه .
تناولت حزمة الأوراق وانجذب بصرها إلى العنوان مباشرةً .. العرس .
صمتت هنيهةً ثم تذكرت :-
-لقد وعدني بقراءة هذه القصة .
هزت الممرضة كتفيها بلا مبالاة ثم عادت إلى محلها وانشغلت بملف آخر . سارعت الطبيبة بمغادرة الردهة بخطىً حثيثة ، تناولت منديلا من جيبها و أخذت تنشج بصمت . و للمرة الأولى، منذ أسابيع، رفعت رأسها إلى سقف الممر، و قرأت تلك اللافتة التي كتب عليها بأحرف كبيرة ، واضحة ... ردهة السرطان !
- فلمبدع بكل المعاني
- الجنس :
عدد الرسائل : 931
العمر : 34
تاريخ التسجيل : 11/05/2009
رد: ردهة السرطان
الأربعاء يوليو 08, 2009 2:13 pm
يسلمووووووووو اكرم قصة حلوة بس طويلة شوي
- اكرمنائب المدير
- الجنس :
عدد الرسائل : 2661
العمر : 41
تاريخ التسجيل : 23/05/2009
رد: ردهة السرطان
الأربعاء يوليو 08, 2009 2:25 pm
راقني مرورك عزيزتي فل
تقبلي تحياتي
تقبلي تحياتي
- اكرمنائب المدير
- الجنس :
عدد الرسائل : 2661
العمر : 41
تاريخ التسجيل : 23/05/2009
رد: ردهة السرطان
الأربعاء يوليو 08, 2009 2:43 pm
رائع حتى في مرورك اخي ميثم
تقبل تحياتي
تقبل تحياتي
- هبه اللهعضو متالق
- الجنس :
عدد الرسائل : 180
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 02/06/2009
رد: ردهة السرطان
الأربعاء يوليو 08, 2009 8:52 pm
قصة حلوة سلمت يداك
هبة الله
هبة الله
- اكرمنائب المدير
- الجنس :
عدد الرسائل : 2661
العمر : 41
تاريخ التسجيل : 23/05/2009
رد: ردهة السرطان
الأربعاء يوليو 08, 2009 9:13 pm
ربنا ميا حرمنا من مرورك الرائع
دمتي بود وخير دائما
دمتي بود وخير دائما
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى